تبذير الغذاء العربي- كارثة تهدد فلسطين وتعيق التحرير.

المؤلف: د. محسن محمد صالح09.01.2025
تبذير الغذاء العربي- كارثة تهدد فلسطين وتعيق التحرير.

من المؤسف حقًا أن ندرك أن حجم الطعام المُهدَر في أمتنا العربية سنويًا، لا يقتصر فقط على كونه قادرًا على معالجة أزمة الجوع في قطاع غزة المنكوب، أو المساهمة الفعالة في إعادة بنائه، بل يتعدى ذلك ليشمل إمكانية تحقيق تقدم جوهري نحو تحرير القدس وفلسطين بأكملها! هذا الاستنتاج المرير يستند إلى تحليل إحصائي دقيق وموضوعي.

إذا أخذنا في الاعتبار أن المقاومة الباسلة في غزة، والتي أبهرت العالم بصمودها الأسطوري لأكثر من 470 يومًا، وألحقت بالعدو الإسرائيلي خسائر فادحة على الأصعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية، لم تتجاوز ميزانيتها بأي حال من الأحوال بضع مئات من ملايين الدولارات؛ فإن قيمة ما يتم إهداره من الأطعمة وبقاياها في عالمنا العربي، وتُرمى ببساطة في صناديق القمامة، قد بلغت في عام 2024 وحده ما يقارب 150 مليار دولار أمريكي مرعب! أي ما يزيد على 150 ضعفًا مما أنفقته المقاومة.

في هذا السياق، لن نخوض في تفاصيل عشرات المليارات من الدولارات التي تتبخر سُدىً على التدخين، أو المبالغ الطائلة التي تُنفق على وسائل الترفيه والتسلية المختلفة؛ كما أننا لن نتطرق إلى الزيارة المشؤومة التي قام بها ترامب إلى المنطقة، وما أسفرت عنه من نتائج كارثية؛ حديثنا اليوم سينصب فقط على تلك الأغذية التي يتم إهدارها بلا حسيب أو رقيب.

إهدار الطعام في العالم العربي

يؤكد تقرير مؤشر إهدار الأغذية (الطعام) لسنة 2024، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة "The Food Waste Index Report 2024, Environment Assembly, United Nations Environment Programme (UNEP)"، أن الدول العربية تُصنف ضمن قائمة الدول الأكثر إسرافًا وتبذيرًا في الطعام على مستوى العالم.

بالاستناد إلى بيانات التقرير، وبالاستعانة كذلك بموقع المشهد السكاني العالمي World Population Review في الجزئية المتعلقة بإهدار الطعام Food Waste، ومن خلال عملية حسابية بسيطة لحجم الأطعمة وبقاياها التي يتم التخلص منها في القمامة، نجد أن المجموع الكلي يصل إلى حوالي 59 مليونًا و680 ألف طن من الطعام المهدر.

وفقًا للتقرير ذاته، بلغ حجم الطعام المهدر في جمهورية مصر العربية في عام 2024 حوالي 18.1 مليون طن، بمعدل إهدار سنوي يصل إلى 155 كيلوغرامًا للفرد الواحد. أما في العراق، فقد بلغ حجم الإهدار 6.4 ملايين طن، بمعدل 138 كيلوغرامًا للفرد. وفي المملكة العربية السعودية، تم إهدار 3.8 ملايين طن، أي بمعدل 112 كيلوغرامًا للفرد. وفي الجزائر، وصل الإهدار إلى 5.1 ملايين طن، بمعدل 108 كيلوغرامات للفرد. وسجل المغرب إهدارًا قدره 4.2 ملايين طن، بمعدل 111 كيلوغرامًا للفرد. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، بلغ الإهدار 930 ألف طن، بمعدل 99 كيلوغرامًا للفرد. أما في تونس، فقد وصل الإهدار إلى 2.1 مليون طن، بمعدل يقارب 173 كيلوغرامًا للفرد.

وفي دولة الكويت، بلغ حجم الإهدار 420 ألف طن، بمعدل وصل إلى 99 كيلوغرامًا للفرد. وفي الأردن، تم إهدار 1.1 مليون طن، بمعدل بلغ 98 كيلوغرامًا للفرد.

الجدير بالذكر هو تلك الزيادات الملحوظة في معدلات الإهدار في عام 2024، مقارنة بعام 2021، في بعض الدول مثل مصر (82 كيلوغرامًا للفرد في 2021)، والعراق (109 كيلوغرامات للفرد في 2021)، وتونس (88 كيلوغرامًا للفرد في 2021).

قد يُعزى هذا الارتفاع إلى تحديث آليات جمع المعلومات وتطوير أساليب إجراء الدراسات وتحليل البيانات؛ إلا أن ذلك لا يقلل مطلقًا من فداحة حجم الإهدار في كلا العامين.

لا يسعنا المجال هنا لذكر كافة الدول العربية؛ ويمكن للراغبين في الاطلاع على قراءة إحصائية مقارنة بين عامي 2024 و2021، الرجوع إلى موقع المشهد السكاني العالمي World Population Review في الجزئية المتعلقة بإهدار الطعام Food Waste. مع الأخذ في الاعتبار وجود بعض الاختلافات الطفيفة مع مؤشر إهدار الأغذية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة؛ بالإضافة إلى وجود بعض المراجع التي تقدم تقديرات متباينة في بعض الأحيان، ربما بسبب استخدامها لإحصائيات مختلفة من الناحية الزمنية، أو اعتمادها على مصادر تستخدم طرقًا مختلفة في جمع البيانات وتحليلها. وقد حرصنا هنا على استخدام الأدق والأكثر اعتمادًا على المستوى العالمي.

وفقًا للمصادر المتاحة، قُدرت قيمة إهدار الغذاء في إحدى الدول العربية بحوالي عشرة مليارات و650 مليون دولار، إلا أنه لا تتوفر إحصائيات دقيقة حول تكاليف الإهدار في العديد من الدول العربية الأخرى. ولكن، إذا استخدمنا الرقم المذكور أعلاه لاستخلاص دلالة استرشادية إحصائية لتكلفة الطن الواحد، فستكون حوالي 2.800 دولار أمريكي.

بافتراض أن تكاليف الإهدار للطن الواحد تختلف من بلد إلى آخر، وبافتراض أننا قمنا بتخفيض متوسط التكلفة "العربي" إلى حوالي 2.500 دولار ليتناسب مع بقية الدول العربية، بهدف استخلاص مؤشر أكثر دقة؛ فإن تكلفة الطعام المُهدَر (الذي بلغ حوالي 59.68 مليون طن) في عام 2024 ستبلغ حوالي 149 مليارًا و200 مليون دولار؛ وهو مبلغ فلكي بكل المقاييس.

قراءة تحليلية: ثمة عدد من النقاط المهمة التي تجدر الإشارة إليها في ضوء المعطيات السابقة

أولًا: تتحمل المؤسسات الرسمية العربية مسؤولية جسيمة تجاه قضية إهدار الطعام المتفشية في البلدان العربية، حيث أن معظم هذه الدول ترعى بشكل أو بآخر "الثقافة الاستهلاكية" السائدة، وتربط بشكل خاطئ بين "التقدم" و"الترف"، وتوظف لذلك إمكانيات إعلامية وثقافية هائلة، بينما لا تتبنى برامج فعالة للحد من "الترف" والإسراف. وفي المقابل، يحارب عدد منها تنمية المشاعر الإسلامية والقومية، في مواجهة المشروع الصهيوني الغاشم ودعم حقوق الشعب الفلسطيني.

في الوقت الذي تتشدق فيه العديد من الأنظمة الرسمية العربية بأنها قدمت كل ما بوسعها، بل وأكثر، تجاه فلسطين؛ فإن قراءة مقارنة بسيطة للأرقام المتاحة، تشير بوضوح إلى أن الدعم المالي الذي قدمته أي دولة عربية على مدار العشرين سنة الماضية، لا يرقى إلى قيمة الطعام الذي يُلقى في نفاياتها لسنة واحدة فقط!

على سبيل المثال، فإن إجمالي الدعم الرسمي الذي قدمته إحدى الدول العربية التي تعتبر من بين الدول الأكثر دعمًا لفلسطين، بلغ على مدى 22 عامًا (الفترة من 1999 إلى 2020) حوالي ثلاثة مليارات و925 مليون دولار، بالإضافة إلى دعم للأونروا بقيمة 850 مليون دولار (ليصل المجموع إلى أربعة مليارات و775 مليونًا)، وهو ما يقل عن نصف قيمة الطعام المهدر في سنة واحدة.

كما أن معظم الدول العربية لم يزد دعمها المالي لفلسطين، طوال الخمسين سنة الماضية، على ما يُرمى في مكبات النفايات الخاصة بها في عام واحد.

من جهة أخرى، جنت أنظمة عربية أرباحًا طائلة نتيجة تطبيعها المشين مع الكيان الإسرائيلي، من خلال توفير شريان غذائي بري يمد الاحتياجات الإسرائيلية، في الوقت الذي يفرض فيه العدو الإسرائيلي حصارًا خانقًا ومجاعة مُطبقة على قطاع غزة.

بينما عمدت أنظمة أخرى إلى التضييق على التبرعات الشعبية، وحصرها في قنوات رسمية ضيقة وغير فعالة، كما قامت بمحاصرة أو إغلاق مؤسسات العمل الخيري، وحول بعضها العمل الشعبي لفلسطين من "شرف" إلى "تهمة" يعاقب عليها القانون، مما جعل هذا المجال عرضة للملاحقة والسجن!

ثانيًا: تقع مسؤولية كبيرة أيضًا على عاتق الشعوب العربية في قضية إهدار الطعام، حيث أن أكثر من 60% من الطعام المهدر يأتي من المنازل والعائلات التي تلقي ببقايا طعامها في القمامة دون أدنى شعور بالمسؤولية.

ومن المؤسف حقًا أن يزداد حجم الرمي في النفايات خلال شهر رمضان المبارك، حيث تشير التقديرات إلى ارتفاع نسبة الطعام المهدر في هذا الشهر إلى أكثر من 50% مما يتم إعداده، في عدد من البلدان العربية.

تختلط لدى شعوبنا العربية، على مستوى العائلات والأسر، صفات الكرم والجود وطيب النفس، مع المظاهر السلبية للترف والبذخ وسوء التقدير والمبالغة في الولائم والحفلات والمناسبات الاجتماعية.

وهي مظاهر بدا أن بعضها قد تأثر بأجواء طوفان الأقصى، حيث تم التقليل من نسب الإهدار بشكل طفيف، لكن هذا التغيير كان مؤقتًا ولم يستمر ليتحول إلى ثقافة راسخة أو عادات يومية؛ ولهذا السبب، ظلت إحصائيات عام 2024 تعكس تلك الثقافة الاستهلاكية المتجذرة التي تتجاوز بكثير المعدلات العالمية.

على الرغم من حالة التعاطف الشعبي الهائلة مع فلسطين في العالم العربي، وشبه الإجماع على دعم المقاومة ورفض التطبيع، والغضب والإحباط العارم من السياسة الرسمية؛ فإن أي قراءة إحصائية مقارنة بين إجمالي التبرعات الشعبية وبين حجم الإهدار "الشعبي" للطعام، تجعل نسبة التبرعات ضئيلة جدًا مقارنة بنسبة الإهدار.

ربما لعبت الموانع والعراقيل الرسمية ووسائلها الإعلامية دورًا في ذلك؛ إلا أن مستوى الدعم العملي يظل محدودًا قياسًا بالسلوك الاجتماعي الشعبي والحياة اليومية للناس. بمعنى أن ثقافة "الإهدار" لم تتغير كثيرًا لصالح ثقافة "الدعم" والتكافل.

ثالثًا: عانت دولنا ومجتمعاتنا العربية، وخاصة تلك التي حباها الله – سبحانه وتعالى – بثروات طبيعية وفيرة، من محاولة القفز بشكل مفاجئ من التخلف إلى الرفاهية، قبل التدرج الطبيعي في مشاريع النهوض الحضاري، وانشغلت بالتركيز على صناعة بيئات الاستهلاك والترفيه، قبل "صناعة الإنسان" القادر على مواجهة التحديات الجسام التي تعصف بالوطن والأمة.

إذا وضعنا في الاعتبار أن المنطقة قد عاشت قرونًا طويلة من التشرذم والاستعمار والعادات السيئة، فإن النتيجة الحتمية ستكون تكريس حالة الإنسان الاستهلاكي المترهل الكسول، المتهرب من المسؤولية، والمنشغل بمظاهر الترف ووسائل التسلية والراحة.

نحو دعمٍ فعال

عندما نتحدث عن الدعم العربي لفلسطين وشعبها الصامد، فإننا نتحدث عن واجب مقدس، لا يتبعه منٌّ ولا أذى، وهو ليس مرتبطًا فقط بالعطف والشفقة، بل هو واجب إسلامي ديني، وواجب قومي، وواجب وطني؛ في مواجهة مشروع صهيوني شرس يستهدف الأرض والمقدسات، ويستهدف الأمة بأسرها، ومصالحها العليا وأمن بلدانها الوطني والقومي، ويسعى جاهدًا لفرض الهيمنة على المنطقة بأكملها، كما أنه واجب إنساني وحضاري.

إذا لم تكن هناك قدرة على المواجهة العسكرية المباشرة مع الصهاينة، فلا أقل من أن تتم تعبئة كافة الإمكانات الاقتصادية والسياسية والإعلامية في دعم قضية فلسطين العادلة، ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي البغيض.

إن دعم المقاومة الباسلة في فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشعور الحقيقي بالمسؤولية، وتجسيد هذا الشعور عمليًا في شتى مناحي الحياة، وإعادة ترتيب منظومة معيشتنا وسلوكنا اليومي بما يتوافق مع المشروع النهضوي الوحدوي الذي ينتج الإنسان الحقيقي "المستخلف" من الله، سبحانه وتعالى.

كما أن مواجهة المشروع الصهيوني تستلزم إعادة النظر بشكل جذري في فقه الأولويات وفقه النوازل، ونبذ الترف والتبذير (الذي يعتبر أحد أبرز معالم السقوط الحضاري)، والتعايش مع فقه "الاخشوشان" الذي يعد من أهم شروط النهوض الحضاري، وتبني نمط حياة منضبط ومبدع وجاد، يتعامل مع الموارد والثروات بالشكل الأمثل.

ختامًا، فإنه يمكننا البدء بإحداث تغيير ملموس على مستوى حياتنا الشخصية والأسرية، في التفاعل الإيجابي مع قضية فلسطين المركزية (وقضايا الأمة جمعاء)، وخاصة مع غزة الصامدة التي تتضور جوعًا، على الأقل من خلال تغيير سلوكنا الاستهلاكي الخاطئ، والتوقف الفوري عن إهدار الطعام، والتبرع بما تم توفيره، أو بما يقابل قيمة الطعام المهدر، أو من خلال الصيام والتقشف في أيام محددة والتبرع بقيمة الطعام المفترضة لنصرة غزة وتوفير احتياجاتها الأساسية، وتخفيف المعاناة عن أبناء الأمة في كل مكان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة